الجمعة، 22 فبراير 2013

خدمة التوصيل


 
غريبة هي تلك اللحظات التي أقضيها في المطارات .. في انتظار إقلاع الطائرة..أتصفح وجوه من حولي..وأرقب الناس تجري يمنة ويسرة..كل يهم للحاق بموعده...أجد متعتي الدائمة في اكتشاف الحكايات المختبئة خلف الوجوه....هذه مجموعة من أهل الصعيد البسطاء بزي رجالهم التقليدي تعلوه تلك التلفيحة وجلابيب نسائهم السوداء..يقفون جميعهم في انتظار وافدهم ويتبادلون الحديث فيما بينهم عن شوقهم للقاء أشرف الذي سافر ليعمل سائقا علي تاكسي في احدي دول الخليج...وهذا مسافر أخر انتهي للتو من وداع أهله ..يخفي دموعه فيما يبدو استعدادا لبداية طريق طويل من سنين الغربة.. وهذان زوجان يسيران متشابكي الأيدي مبتسمين..حالمين بحياة هانئة.. يستعدان لبدء حياتهما وقضاء شهر عسل هاديء بعيدا عن صخب الأهل وحافل بذكريات العمر ...
"لولولولولويييي" اخترقت أذناي وقطعت سيل تأملاتي تلك الزغرودة...التي لم أسمع في مثل قبحها من قبل..من هذه المرأة التي تطلق الزغاريد وكأنها سرينة الإسعاف...فتزعج من حولها وتقشعر أبدانهم...
طفت بنظري بين الوجوه لأكتشف القصة...أه.. هذه عروس بفستان فرح أبيض وحولها مجموعة من الأهل يصفقون ويتضاحكون..مودعين ابنتهم إلي حيث هي ذاهبة..ياإلهي ..ماهذا الذوق البشع..ثوب الزفاف ينضح بقلة الذوق  وبشاعة المنظر..كيف ارتضت هذه العروس أن ترتدي ثوبا كهذا؟؟.. ياللهول ..لم أر في حياتي ثوب زفاف بهذه البشاعة...حول رقبتها يتدلي عقد من الألماس المتلأليء.. مممممم...حسنا يبدو أنه الشبكة.. ولكن ذوقه هو الأخر لايختلف بشاعة عن ذوق الفستان ...ممممم ..هي إذن واحدة من تلك الأسر التي تمتلك من المال أكثر مما تملك من أي شيء أخر..تلك الأسر التي  يبدو عليها أنها شبعت بعد طول جوع....ولكن أين العريس ؟؟.. أين ذلك الأبله منعدم الذوق ؟؟ طفت ببصري بين الحضور محاولا استكشاف وجهه بين الواقفين فلم أتعرف عليه.
قمت من مقعدي مقتربا من هذا التجمع محاولا اكتشاف باقي القصة...
"مش كان عصام ابني أولي ببنتك سعاد من الجدع ده...ده لا نعرف أصله ولا فصله"
قالتها إحدي الواقفات إلي جواري بلهجة حزينة معاتبة لمن اكتشفت أنها أم العروس... اه إذن العروس اسمها سعاد...فمن يكون عصام هذا ؟؟
"ياختي بلا فصله بلا أصله ..الراجل مايعيبوش إلا جيبه..لولولولولولييي..وبعدين ماهو بعتلنا صورته وبعت للبت اسم الله عليه فستان الفرح...وكفاية انه كلفها مهر وشبكة ب150 ألف جنيه ..معلش يعني ماتأخذنيش ..عصام في مقام ابني بس لسه بدري عليه ...الجواب بيبان من عنوانه، و بعدين ماهي هتبقي تنزلنا أجازات..لولولولولوليي ..نبقي نطمن منها.."

 هكذا ردت أم سعاد بلهجة تتصنع الفرح وسط سيل من زغاريدها القبيحة....ياإلهي ..هكذا هي الحكاية إذن... عروس تتزوج بشخص لم تره.. ولم تجلس معه وكل ماتعرفه عنه هو صورته التي أرسلها؟؟؟وفستان الزفاف القبيح الذي ترتديه؟؟ طبعا بجانب شبكة ومهر 150 ألف جنيه... متضمنا خدمة توصيل العروسة حتي منزله.
حولت بصري للعروس.. فرأيت وجها بلاستيكيا..متجهما..لاتبدو عليه علامات فرح علي الإطلاق..تنظر لمن حولها بعينين زائغتين.. تسير بخطوات ثقيلة كمن لا يرغب في الرحيل..تجاهد في منع دموع تملأ عينيها من أن تسيل فتعكر صفو هذا الجو الاحتفالي الزائف..
كيف غاب عني وجه العروس من البداية وهو يحمل في طيات قسماته كل الحكاية؟؟
أيحدث هذا في القرن الحادي والعشرين؟؟ ألايزال هناك من الأسر من يقبل بقهر ابنته وتحطيم قلبها وقتل شخصيتها وتحويلها لمسخ  تعيش فتتنفس و هي تتمني زوال حياتها.. من أجل ماذا؟؟ من أجل موروثات اجتماعية قبيحة؟؟ كشبح العنوسة وتكاليف الزواج المبالغ فيها وتلك المظاهر الفارغة ؟؟
"علي ركاب رحلة طيران الكويت رقم 56 المتجهة إلي الكويت..التوجه للبوابة رقم 32"
"ربنا يهنيها يا أم سعاد ويبختلها..سعاد بنت حلال وتستاهل كل خير" قالتها أم عصام  بلهجة مستسلمة منكسرة والتفتت فسلمت علي العروس وقبلتها وابتعدت مودعة حتي وقفت إلي جوار أحد شباب الأسرة..فربتت علي كتفه كمن يواسيه وتمتمت بكلمات لم أسمعها ..كان هو يجاهد وسط الشيالين في تحميل حقائب العروس علي عربة السير..فضحه شكله المهندم وسط الشيالين وتلك الدموع التي تغرق وجهه..هذا هو عصام إذن ..حينها اكتملت الحكاية في رأسي...عصام وسعاد اللذين أحب كل منهما الأخر ..وفرقت بينهم وقائع الحياة وقسوة الظروف..
 
ابتعدت بضع خطوات عن الجميع .... وأنا أرقب سعاد التي وقفت ذاهلة وسط وداع الأهل ودموعهم التي حلت محل الزغاريد..لم تسمع دعوات أمها لها بسلامة الوصول..لم تكن تميز أصوات من حولها علي مايبدو.. كانت تصر علي أن تتبادل مع عصام تلك النظرات الخاطفة والأخيرة ..وأطلقت لعينيها العنان..الآن تستطيع أن تبكي ولا حرج عليها..فالجميع يبكون.. أمها واخوتها وأهلها...حتي عصام الذي لم يستطع كتمان دموعه وهو يزف حبيبته إلي زوجها..ذلك المجهول الهوية...فسالت دموعه في صمت واستسلام علي وجهه.. وكذلك سالت دموعي.


الجمعة، 24 أغسطس 2012

الثلاثاء، 13 سبتمبر 2011

مدرسة الحياة




هل الحياة هي مواقف متشابهة تتكرر في أوقات مختلفة؟؟؟
هل حدث لك قبلا أن مررت بموقف ما وسط أحداث حياتك اليومية فشعرت بزلزال يعصف بك من الداخل وأحسست كما لو أنك تعيد تنفيذ مشهد رأيته أنت من قبل أو كنت طرفا فيه في وقت سابق ما؟؟؟؟
أعتقد أن الفلسفة لا تجدي نفعا في مثل تلك الأمور..تعالوا أذكر لكم بداية الحكاية ...أو لنقل بداية الحكايتين..
الأولي هي تلك التي حدثت مع الكاتب الامريكي لفنجستون لارند والتي دارت أحداثها كالتالي:
كان المؤلف الأمريكي في السابعة من عمره وكان يهيم غراما بمتجر مستر جونز الموجود علي قارعة الطريق..السبب طبعا هو أنه متجر لبيع الحلوي ..هناك عبر النافذة المطلة علي الشارع كان يقف ليرمق العالم السحري بالداخل،قطع الجاتوه المكسوة بالشيكولاته والكريم وقد غرست فيها أعلام صغيرة أو أعواد ثبتت عليها الفواكه المسكرة.التفاح المكسو بالسكر..تماثيل مختلفة من الشيكولاته، وقلعة شيدت منها تقف فوق جبل من الكريمة..عشرات الأنواع من حلوي النعناع التي تذوب في الفم تاركة نارا لها نشوة...
لم يكن يملك قط المال اللازم لشراء ما يريد،فهو من أسرة فقيرة،وهو يعرف أن أسعار هذه الأنواع من الحلوي تفوق قدراته..إلي أن جاء اليوم الذي ادخر فيه ما يكفي..
اقتحم المحل فدق الجرس الصغير المعلق بالباب ليخبر مستر جونز أن هناك زبونا.خرج الرجل العجوز الطيب الذي يضع عوينات تنزلق علي قصبة أنفه ،وتأمله وهو يجفف يده في منشفة،وسأله:
-ماذا تريد أيها الصغير؟
اتجه المؤلف الصغير إلي قطع الجاتوه وأشار لها بثقة:
-أريد خمس قطع من هذه..
ابتسم العجوز ودس يده في قفازين وانتقي للفتي بعض القطع التي طلبها، وهو يتلقي التعليمات:لا أريد التي عليها قشدة كثيرة..لتكن الشيكولاتة ..نعم نعم تلك التي تلمع هناك ...في النهاية أغلق العجوز علبة صغيرة ونظر للصبي متسائلا،فأشار إلي التماثيل المصنوعة من الشيكولاته:
-أريد هذا القط وهذا الحصان...ممممم أريد هذا القصر الصغير..هل هذه عربة؟؟..ضعها لي
قال مستر جونز في شيء من الحذر :
-هل معك من النقود ما يكفي هذا كله يا صغيري؟؟
-نعم ..نعم
الآن انتقي بعض حلوي النعناع، وكان هناك الكثير من غزل البنات الذي مازال ساخنا فانتقي منه كيسين، واختار بعض الكحك..
في النهاية صارت هناك علبة كبيرة معها كيس عملاق امتلأ بالأحلام، وسأله مستر جونز:
-هل هذا كل شيء؟..سأحسب..
هنا مد المؤلف الصغير يده في جيبه وأخرج ماله..أخرج قبضة من البلي الملون الذي يلعب به الأطفال ووضعه في يد العجوز، وقال في براءة
-هل هذا كاف؟؟
لا يذكر المؤلف التعبير الذي ارتسم علي وجه مستر جونز ..ما يذكره هو أنه صمت قليلا ،ثم قال بصوت مبحوح وهو يأخذ البلي:
-بل هو زائد قليلا..لك نقود باقية
ثم دس بعض قطع العملة في قبضة الصغير، ومن دون كلمة حمل الصغير كنزه وغادر المتجر..
لقد نسي هذا الحادث تماما ومن الواضح أن أمه لم تكن فضولية فلم تسأله من أين جاء بهذا، كما يبدو أنه لم يجرب ذلك مرة ثانية..فيما بعد غادرت الأسرة المنطقة وانتقلت إلي نيويورك..
ومرت السنين ..الآن صار الكاتب شابا في بداية العمر،وقد تزوج بفتاة رقيقة اتفق معها أن يكافحا ليشقا طريقهما سويا..كان كلاهما يعشقان أسماك الزينة لذا اتفقا علي افتتاح متجر لهذه الأسماك..
في اليوم الأول انتثرت الأحواض الجميلة في كل مكان ،وقد ابتاعا بعض الأسماك غالية الثمن..وكما هو متوقع لم يدخل المتجر أحد..
عند العصر فوجيء بطفل في الخامسة من عمره يقف خارج الواجهة وإلي جواره طفلة في الثامنة..
كانا يرمقان الأسماك في انبهار وإعجاب..وفجأة انفتح الباب وتقدمت الطفلة وهي تتصرف كسيدة ناضجة تفهم العالم أو كأنها أم الصبي..وحيت المؤلف هو وزوجته وقالت:
-أخي الصغير معجب بالأسماك لذا أريد أن اختار له بعضها..قال لها إن هذا بوسعها بالتأكيد، لكنه شعر بأن هناك شيئا مألوفا في هذا الموقف...متي مر به من قبل؟؟لعله واهم؟..
اتجهت الفتاة إلي حوض أسماك المقاتل السيامي وهي باهظة الثمن رائعة الجمال،واختارت اثنتين فأحضر المؤلف دلوا صغيرا والشبكة وبدأ ينقل ماتريد..ثم اتجهت إلي حوض أسماك استوائية نادرة واختارت ثلاث سمكات..وكانت تصغي لاختيارات أخيها الذي يهتم بالأسماك الكبيرة زاهية اللون طبعا..
في النهاية امتلأ الدلو ووجد نفسه يقول لها:
-أرجو أن تعودي للبيت سريعا قبل أن ينفد مافي الماء من هواء ، كما أرجو أن يكون ما معك من مال كافيا فهذه ثروة صغيرة
قالت الطفلة في ثقة:
-لا تقلق فقط ضع لي هذه وهذه...وهذه أيضا
بدأ يجمع ثمن ما وضعه في الدلو،وذكر الرقم المخيف للطفلة،لكنها لم تبد مدركة لمعني الرقم أصلا..مدت يديها في جيبها وأخرجت قبضتين مليئتين بحلوي النعناع وبعثرتها أمامه وسألته في براءة:
-هل هذا كاف؟؟
هنا شعر بالرجفة ..لقد تذكر كل شيء..تذكر صبيا في السابعة يجمع كل ما في محل المستر جونز من حلوي ومنذ خمسة وعشرين عاما أو أكثر ..تذكر البلي..تري بم شعر المستر جونز وقتها؟؟
لن تسأل كيف تصرف فقد تصرف فعلا..رباه! !
كان مستر جونز قد وجد نفسه في موقف حساس ،ولم يستطع أن يجازف ببراءة الصبي أو أن يشعره بالحرمان..لم يتردد كثيرا..وبالمثل لم يتردد المؤلف
قال بصوت مبحوح للطفلة وهو يجمع حلوي النعناع ويضعها في الدرج:
-بل هو زائد قليلا..لك نقود باقية.
ودس في يدها الصغيرة بعض قطع العملة،فقالت في رضا وببراءة:
-شكرا يا سيدي ..سأخبر كل صديقاتي عنك!!
وغادرت المحل مع أخيها ..هنا وثبت زوجته من حيث جلست تتابع هذا الموقف وصاحت في توحش:
-هل تعرف ثمن السمك الذي أخذته هذه الطفلة؟؟..إنه يقترب من خمس رأس مالنا!!
قال لها وهو يرمق الصغيرين يهرعان تحت شمس الطريق:
-أرجو أن تصمتي ..لقد كان هناك دين ثقيل علي كاهلي علي مدي خمسة وعشرين عاما نحو عجوز يدعي مستر جونز،وقد سددته الآن!!الآن فقط...
.....
.....
.....
.....
الحكاية الثانية حدثت معي
كما سجلتها في تلك النوتة الزرقاء..التي أهرع إلي صفحاتها كلما مررت بموقف صعب علي تفسيره أو تبريره..أو بحدث شعرت بجلاله في مسير حياتي...
12\أغسطس\1994عمري 9 سنوات
أرسلنى أخي الأكبر اليوم لأشترى بعض الأغراض من عند البقال المجاور للبيت. بعد إتمام المهمة وفى مشوار العودة إلي منزلي –الذي لايزيد عن خمسين مترا-وبينما أحمل فى كلتا يدى أكياس البقالة و خمسة جنيهات هي ما تبقى من النقود التى أعطانيها أخى، برز لى فتى كبير أحفظ جيدا شكله وهيئته فهو أحد متشردي المنطقة التي أسكن فيها،إنقض علي وفى حركة خاطفة انتزع من بين يدي ما أحمل من نقود ثم أطلق ساقيه للريح. جريت وراءه وأنا أصرخ حتى بح صوتى، لكننى لم أستطع اللحاق به، فعدت إلى البيت مروعا مقطوع الأنفاس أجر أذيال الخيبة.
حكيت ما حدث فكانت النتيجة علقة ساخنة بالعصا من والدى، ألهبت كل جزء فى جسمى الصغير. حاولت أن أشرح أننى لم أهمل وأن الموقف كان أكبر منى، فالفتى كبير وقد باغتنى وأنا أحمل كيسا كبيرا خفت أن يقع وتتبعثر محتوياته لو قمت بمطاردته.. وحتى المطاردة لم تكن لتفلح وإن لحقت به، وذلك للاختلال الجسيم فى موازين القوة، وربما أصابنى بمطواة أو موس حلاقة. لكن كل هذا لم يشفع لى ولم يجعل أبى أو اخي يقتنعان بمبرراتى ويتنازلان عن اتهامهما لى بالإهمال والرقاعة...
26\يوليو\2007-عمري 22 عاما
اليوم حدث شيء غريب جدا،أرسلت أخي الصغير لشراء الجرائد التي اطالعها كل صباح من بائع الجرائد الذي لا يبعد أكثر من خمسين مترا عن منزلنا الجديد الذي إنتقلنا إليه مؤخرا ولسبب ما-لا أعلمه- وجدت في نفسي رغبة ملحة أن أقف في البلكونة لأرقب ذهاب أخي وعودته بعد أن خرج هو من البيت في طريقه لشراء الصحف...وهالني مارأيت
فبعد 13 عاما تكرر الموقف بحذافيره مع أخي الأصغر..ولكني كنت شاهدا هذه المرة علي ماحدث..شاهدت متشردا كبير الحجم يقترب من أخي ويخطف من بين يديه ماتبقي من النقود التي كان عائدا بها، وشاهدت أخي يصرخ تماما كما فعلت أنا قبله ب13 سنة، ويجري محاولا إدراك اللص، ولما أدرك أن ميزان القوة في غير صالحه،وأنه لاجدوي من الصراخ أو محاولات اللحاق بذلك المتشرد، لملم الجرائد التي تبعثرت منه وإلتفت عائدا إلي المنزل ،باكيا وكل جزء في جسده الصغير يرتعش من أثر الصدمة وخوفا من العقاب الذي ينتظره علي يدي.
لكني شعرت بأن هناك شيئا مألوفا في هذا الموقف...متي مررت به من قبل؟؟لعلي واهم؟؟؟؟؟؟؟..و... وتذكرت..
عادت بى الذاكرة إلى يوم عدت إلى البيت مهزوما مكسور الوجدان، وانخلع قلبى لرؤية أخى خائفا فأخذته فى حضنى لأهدئ من مخاوفه،قائلا له:ولايهمك..المهم أنك بخير..
ثم بذلت جهدا فى إقناعه بأنه ليس جبانا ولا خوافا لكنه واجه موقفا أكبر منه ولم يكن مما حدث بد، وأقنعته أنه ليس عليه أن يخجل من الموقف لأننى أنا نفسى..-أخوه الذي يقتدي به- الذى يأتى بالعجائب والمعجزات حدث معى الأمر نفسه زمان ولم أستطع أن أفعل شيئا..وقد هون عليه ذلك الأمر كثيرا..وظللت محتضنا إياه حتي سكنت نفسه..
لم أكن أعلم وقتها أن أبي يرقب كلانا من بعيد وينتظر ليري ما سيحدث...وعندها لمعت عيون أبي،تلك اللمعة التي أعرفها جيدا وأحفظها عن ظهر قلب..والتي تعني أنه تذكر ما جري معي منذ سنين مضت..
هي الحياة إذن ..نفس الدروس نتلقاها مع اختلاف التوقيت..واختلاف الشخوص..ولكن تبقي الأحداث واحدة ..متشابهة ومتماثلة بشكل مذهل...
هكذا هي الحياة ميراث لا ينقطع ..وما ستفعله بمن هم أصغر منك سوف يكررونه مع من هم أصغر منهم عندما يكبرون..بل ربما يكررونه معك أنت....كما تدين تدان..وكما كنت أنت اليوم من يتلقي درس الحياة فربما تكون غدا أنت من يلقي الدرس ..نفس الدرس ..ونفس الأحداث..ولكن الأسماء تختلف!!

السبت، 3 سبتمبر 2011

ما معني الحب يا أبي؟؟



يسير ممسكا بيدها الصغيرة ..وسط تلك المساحة الخضراء الشاسعة ... شواهد القبور تطل عليهما من كل صوب ...وهما يسيران بملابسهما البيضاء كملائكة وسط القبور...
في الجو نسمة باردة تهب بنعومة لتلامس وجهه ..وتتلاعب بشعر صغيرته الأشقر....الشمس لازالت تواصل طريقها لأعلي السماء ...
أمام قبر بعينه يعرفه هو جيدا توقف  ومعه طفلته الصغيرة..
كان شاهد القبر مكتوبا عليه....."هنا ترقد بكل الحب .........."
-ما معني الحب يا أبي؟؟
نطقتها الصغيرة ذات السبعة أعوام ببراءة ، سائلة أباها الذي وقف بجوارها دامع العينين.. صامتا  مطرقا إلي الأرض... محدقا إلي قبر زوجته ....
تلك الصغيرة لا تعلم معني الموت ....هي فقط تعلم أن أمها في السماء...  
إنتزعه السؤال من  شروده و أحزانه فنظر إلي إبنته بحنان ولمعت عيناه وهو يتذكر كيف كانت البداية...بداية الرحلة...
تذكر المرة الأولي التي وقعت عيناه علي فتاته وكيف إلتقت عيناهما بصمت  وخجل...
تذكر إرتباكه وخوفه الذي سيطر عليه يوم قرر أن يصارحها بحبه لها ورغبته في الزواج منها...
تذكر كيف كاد يسقط علي وجهه مغشيا عليه عندما أعلمته بموافقتها... وهو يخبرها أن كل وظيفته في الحياة ستكون هي سعادتها...وسعادتها فقط..
تذكر لهفة الشوق لها... وتلك القشعريرة التي كانت تسري في جسده كلما نظر في عينيها أو أمسك يديها...
تذكر كيف  كانا يتسابقان سويا في صعود تلك التلة جريا غير عابئين بنظرات الناس من حولهما....وكيف كان يتركها تسبقه بطفولة ماكرة... متظاهرا بالتعب...حتي تعيش هي نشوة الإنتصار....كان يحبها بصدق...
تذكر ذلك الترقب واللهفة التي ملأت عينيها وهي تنتظر سماع رأيه في طهيها للمرة الأولي وكأنها تنتظر حكما من قاض...
تذكر كيف كانا يسيران سويا ...يتندران ويتشاجران ويتناجيان ....وهي متعلقة بذراعه...
تذكر كيف واسته عندما فقد عمله وضاقت عليه الدنيا... إلا منها...تلك الثقة اللامحدودة والغريبة التي كانت تمنحه إياها بإقتدرا...
تذكر كيف باعت حليها وأعطته كل مالها عن طيب خاطر ليستعين به علي بدء تجارة جديدة...داعية له بنفس  خالصة وعيون دامعة  أن يوفقه الله وأن يفتح له أبواب الرزق واسعةً....
تذكر كيف كانت تضحك بمنتهي البراءة وتنظر له بإمتنان شديد عندما يدخل عليها حاملا بين يديه وردة أو قطعة من الشيكولاته التي تعشقها كثيرا...
.... كيف كانت تشعره بأنها أسعد إمرأة في الدنيا فقط لأنهما يجلسان سويا يشاهدان فيلمها المفضل في المنزل

تذكر فرحتها و تلك الدموع التي إنهمرت في عينيها عندما علمت بخبر حملها وأنها قريبا ستصبح أماً...
تذكر مشاق الحمل علي جسدها الضئيل ...وسهر الليالي وزيارات الأطباء وألام الوضع ..والفرحة بصراخ تلك الطفلة الصغيرة التي أعلنت وصولها لتشاركهما حياتهما معا....
تذكر إبتسامة الرضا والعرفان التي علت شفتيها عندما أصر هو أن يطلق إسمها علي طفلتهما الوليدة ...
تذكر جو البهجة والسرور الذي أدخلته تلك العابثة الصغيرة علي بيتهما السعيد ...
تذكر كيف كانا يتشاجران بطفولة بريئة علي من يدفع سيارة الإبنة الوليدة في الشارع...
تذكر كيف كانت تسهر علي راحته  ليلا ممسكة بقدح القهوة منشغلة بالقراءة او بمشاهدة التلفزيون  حتي لا يسهر وحيدا وهو يراجع صفقة ما أو يستعد لمشروع جديد.....
كم من مرة عاد للبيت متأخرا ليجدها تقف بإنتظاره مرحبة بعودته كمن عادت إليها حياتها مرة أخري...
...تذكر تلك الألام المتكررة التي كانت تجاهدها في صمت ...خوفا من أن تزعجه أو تفزعه...فهي تعلم كم يحبها بجنون

تذكر تلك الإبتسامة الشاحبة التي علت وجهها وهي تحمد الله عندما سمعت خبر إصابتها بذلك المرض اللعين ...
ذلك المرض الذي سلبها مع مرور الزمن وجلسات العلاج كثيراً من أنوثتها ...هي كانت تشعر بذلك ،وهو يراها تزداد جمالا كل يوم عن سابقه ....
تذكر كيف كانت تسأله كل صباح إن كان لا يزال فعلا يحبها؟؟
وتذكر كيف كان يحتضنها بحب مطمئنا إياها أنه لم يخلق لسواها...
تذكر كيف نهرها بعنف ثم إحتضنها بين ذراعيه وضمها إلي صدره بقوة وبكيا سويا عندما خيرته بين الإستمرار في حياته معها كنصف زوجة أو الزواج من أخري....
تذكر كيف نظرت له للمرة الأخيرة وتلك الأسلاك والخراطيم موصلة لجسدها الرقيق من كل مكان وهي تخبره أنه أفضل ماحدث لها في حياتها و توصيه أن يتخير لإبنتهما أما جديدة...
تذكر كيف لفظت بين ذراعيه أنفاسها ...وكيف  بكي ساعتها كالطفل الصغير الذي فقد أمه في الزحام ....
تذكر كيف شعر في تلك اللحظة أنه فقد حضنه الدافيء وملاذه الآمن كان يلجأ إليه  لينسي همومه ويستريح...
كيف كان يشكو لها قسوة الأيام فتواسيه ، وكيف كانت نعم السند والمعين...
تذكر كيف شعر أنه بات  شيخا هرما يومها وهو لم يجاوز الثانية والثلاثين بعد....وأن شيئا ما قد انكسر في صدره إلي الأبد...
-أبي؟؟؟ألم تسمعني؟؟ ما معني الحب يا أبي؟؟
بحنان ...نظر إلي إبنته من جديد...كانت نسخة مكررة من ملامح أمها...
وبرفق قبض علي أصابعها الصغيرة وسارا سويا مبتعدين...وهو يجيبها بصوت تخنقه الدموع:
-الحب يا ابنتي هو أمك.

الأربعاء، 31 أغسطس 2011

في مطار هيثرو...


جو الشتاء الحزين ودفء البيت والحنين لشيء ما .. كل هذا يغريك بأن تلصق أنفك بزجاج النافذة وتحلم .. لكن هناك دائما منذ ميلاد البشرية ما يرغم الإنسان على الخروج تحت الأمطار ذاهباً لمكان ما ..

درجات الحرارة تتجاوز الخمس درجات بقليل...عقارب الساعة تشير إلي منتصف ليل لندن...ممسكا بكوب القهوة بين يدي أقف بإنتظار النداء الأخير لركاب طائرة مصر للطيران المتجهة للقاهرة في صالة السفر رقم خمسة في مطار هيثرو ، أطالع الطائرات تهبط أو في سبيلها للإقلاع  من خلال الواجهة الزجاجية التي تفصل مبني الركاب عن مدرج المطار...
 قطرات المطر تواصل اصطدامها بزجاج الواجهة صانعة ذلك الصوت المحبب إلي نفسي ...
حسنا ..إنها ليلة عيد الأضحي في لندن..

من سماعات ال ipod تنساب الي أذني أغنيتي المفضلة في العامين الأخيرين... تلك الأغنية التي دائما ما تداعب جزءا رماديا من خلايا عقلي ...مذكرة إياي بأيام وسنين مضت ...
بأحلام تحققت وأخري تحطمت...
بدمعات سالت وقهقات علت...
بنجاحات وإخفاقات..لقد ذكرتني بالكثيرجدا...


ذكرتني بفرحتي الغامرة يوم تلقيت رسالة القبول من تلك الجامعة الإنجليزية العريقة ضمن خمسة طلاب أخرين من خارج أنجلترا  لإستكمال دراستي بها....

و بوجه أبي الذي كاد ينفجر غضبا عندما علم بإستقالتي من عملي ونيتي السفر...ساعتها أتهمني بالتهور والاندفاع وبأننا ( جيل من المستعجلين) ...



ذكرتني بدعوات أمي لي ساعة الوداع  في المطار من وسط دموعها  أن أعود مجبور الخاطر سالما...

ذكرتني بيد أبي المرتجفة التي ربتت علي كتفي يومها وتلك الدمعة التي حبسها بإقتدار في مقلتيه وهو يوصيني بالصلاة والقرآن في غربتي...

ذكرتني باللحظة الأولي التي وضعت أقدامي فيها علي أرض لندن وكيف كنت أشعر وقتها أني أطير علي سطح الأرض لا أمشي علي ظهرها...

ذكرتني بسيري لساعات وحيدا في شوارع بادينجتون وكامدن و أكسفورد ،لا ألوي علي شيء اللهم إلا تنفيسا عن شحنة  إكتئاب تحاول جاهدة إحتلال عقلي والسيطرة عليه...

جسر البرج الذي قطعته سيرا عشرات المرات متنشقا نسائم نهر التايمز ...


وتحديقي لساعات في تماثيل ويستمنستر وتايت جاليري ومدام توسو...

وسهر الليالي وأكواب القهوة أيام الامتحانات...

ذكرتني بذلك الإحساس الشنيع بالوحدة في ليلة ممطرة ضبابية من ليالي لندن الكثيرة الضباب.. و ذلك الخوف من مجهول قد يحدث في أي وقت...

ذكرتني بتلك الحيرة التي انتابتني ساعة تلقيت عرضا من الجامعة للإستمرار بين صفوفها كباحث بعد أنتهاء دراستي...


 بصديق سكني الفلسطيني الذي كاد أن يجن عندما علم أنني حسمت قراري بالعودة لمصر للبدء هناك من جديد مبشرا إياي بأن كلها شهر في مصر و هضرب نفسي( بالصرماي)-علي حد قوله- جزاءا وفاقا  لقراري هذا
لا أدري كيف سقطت نسائم نهر التايمز أمام نسمات نهر النيل ولا جسرالبرج أمام كوبري قصر النيل ولا برج بيج بين أمام برج القاهرة...حقا لا أدري...

لا أدري لماذا كنت مشتاقا لهذا الحد لنزهة في شوارع وسط البلد وطلعت حرب بينما أنا أتجول ليل نهار في شارع إكسفورد وبيكاديللي وأتنزه في ريجنت وسانت جيمس بارك....

لا تسألني كيف كنت مستعدا أن أعود الي مصر سيرا علي الأقدام من أجل ساندوتش فلافل من جاد عندما كنت أجلس في شيبرياني أو روست أو شاركليز لتناول طعام الغداء...  

(النداء الأخير علي ركاب مصر للطيران الرحلة رقم 858 المتجهة للقاهرة ،الرجاء التوجه للبوابة رقم 7)

إنه نفس ذلك  الشعور ينتابني مرة أخري ...لم أكن أسير علي قدمين..لقد كنت أطير علي سطح الأرض...متخذا طريقي بسرعة وسط هذه الأمواج المتلاطمة من البشر ...أسابق الزمن لأعود ...

أتخيل وجه أمي الضاحك ودموعها المنهمرة في آن واحد فرحا بعودتي...أشعر بدفء كوب الشاي في يدي وسط أحضان الرفاق في مصر وجلساتنا علي البورصة...أتشمم نسمات الهواء في الحسين وشبرا والعتبة وشوارع وسط البلد وخان الخليلي والأزهر تهب علي وجهي...

ذلك الهواء البارد الذي يلامس وجهي برفق علي  إمتداد كورنيش النيل..وتلك النظرة الصافية الحنون التي ألمحها في عيون كل أم مصرية وتدفعني دفعا لتقبيل أياديهن ...

تلك البسمة التي تعلو وجه الفقراء والكادحين والبسطاء علي الرغم من قسوة الحياة....ذلك الدفء الحميمي الذي تشعر به في كل شبر من شوارع مصر رغم صخبها الذي لا يتوقف ... وليلها الساهرالذي لا ينام..

مصر ..الهرم والأزهر...مصر صوت الشيخ رفعت والنقشبندي ..أم كلثوم وعبد الوهاب....مصر التي رأيتها في روايات نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم والعقاد....

(توصل بالسلامة ان شاء الله)
لم يقطع إنهمار أفكاري إلا صوت تلك الفتاة الخمرية التي تقف مبتسمة بصدق علي باب الطائرة وملامحها تصرخ بالمصرية الخالصة...

ربطت حزام مقعدي ..ومن النافذة تطلعت للمرة الأخيرة علي لندن...

سأفتقد هذا الضباب كثيرا...

كانت رائعة عمر خيرت لاتزال تنساب إلي أذني ...
هي تلك الأغنية التي داعبت خلايا عقلي ... أغنيتي المفضلة في العامين الأخيرين...
ارتفعت عجلات الطائرة عن الأرض وإنسابت الدموع التي حبستها في عيناي طويلا...وعلت وجهي إبتسامة عريضة...
عندها فقط تأكدت أنني أذوب في غرام معشوقتي ..حتي الثمالة.....في غرام مصر.


الأحد، 28 أغسطس 2011

محاكمة الفرعون..




ثالث أيام الصيام في رمضان..الساعة الحادية عشرة ظهرا، حلقي يكاد يتشقق من العطش وقلة الماء...ولكن لن أرتوي قبل سبع ساعات أخري علي الأقل، بقلق راقبت صفحات الفيس بوك علي جوالي لأتأكد أن إجراءات محاكمة القرن تسير في السياق الطبيعي وأن شيئا غير عادي لم يحدث ،غير أني لم أكن حتي لحظتها أتوقع أني سأري مبارك ونجليه خلف القضبان...شيء ما في داخلي كان لا يزال غير مصدق لما يذاع علي الجزيرة وCNN حتي تلك اللحظة من أن المحاكمة ستبدأ خلال دقائق.

شحنة القلق والتوتر بداخلي كانت أكبر من أن أستطيع السيطرة عليها مواصلا عملي ،أخذت سيارتي وانطلقت للبيت ،مع مرور الدقائق وفي منتصف الطريق زاد توتري أضعافا وارتعشت يداي ،ولم أشعر بقدمي علي دواسة البنزين ولم أنتبه إلا ومؤشر السرعة يتجاوز ال140 كم معلنا أن السرعة تتضاعف...كنت أسابق الزمن لأصل لأي مقهي أتابع من خلاله مايحدث وأتأكد بأم عيني من أن مصر تتغير بالفعل..
من أعلي كوبري 6 أكتوبر الي غمرة وهاهو ميدان رمسيس يلوح من بعيد...ياربي ما كل هذا الازدحام..فجأة قررت أن أصف سيارتي في أي مكان لأترجل منها جريا ...أصف سيارتي في رمسيس؟؟؟طب بأمارة إيه؟؟ إن ظهور العنقاء والغول قد يحدث قبل أن أجد مكانا يصلح لركن سيارتي ...وقعت عيني بمعجزة علي مسافة متر واحد حشرت فيه طرف السيارة و نزلت منها مهرولا أبحث بعيني عن أي جهاز تلفزيون في أي مقهي علي مقربة.

وجدته.. وأخيرا..بسرعة البرق اندفعت مقتحما المكان وتسمرت في منتصف المقهي أجول ببصري.....و .......وشاهدته.......
شاهدت الفرعون يدخل القفص بصحبة أولاده و6 من زبانية الداخلية....وعندها فقط لم أتمالك نفسي .....وبكيت.....بكيت بغزارة......وعلي الفور وجدتني أعيش من جديد كل ثانية وكل دقيقة عشتها يوم جمعة الغضب....يوم سالت  دماء الكرامة في أرجاء مصر و وسط ميادينها...

تذكرت كل لحظة بتفاصيلها......تذكرت هلعي ورعبي علي أخي الذي رأيته يسقط مصابا أمام عيني والدماء تغطي وجهه...
تذكرت رغبتي في أن يتنحي مبارك في هذا اليوم ممنيا نفسي بتحقيق نصر سريع وخاطف...
تذكرت خوفي من الموت الذي جعلني أكتشف أنني أحب الحياة ...لكنني اكتشفت لحظتها أنني لم أكن قد عشتها حقا قبل أن أنزل طلبا لها في وطن تسوده الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية ...
تذكرت دخان القنابل التي أعجزتنا عن الرؤية أو الإستنشاق فوق كوبري قصر النيل...
تذكرت دوي طلقات الرصاص بينما نحن نتقدم بإتجاه ميدان التحرير وشباب مصر يتسا قطون واحدا تلو الأخر...
تذكرت رفيق طفولتي وزميل دراستي وهو يسير ممسكا بيدي نتقدم بإتجاه ضابط يصوب سلاحه علينا غير مصدقين أنه سيطلق الرصاص لأننا نهتف بإسم مصر....
تذكرته وقد أصابته الطلقة في منتصف صدره وإنفجرت منه علي إثرها الدماء لتغرق وجهي وملابسي...
تذكرت نظرة عينيه نحوي وهو في الرمق الأخير مسندا ظهره لسور الكوبري مبتسما ودامعا في آن واحد ويده تسقط بجواره بعلامة النصر والدم ينسال من بين شفتيه مصمما علي أن تحيا مصر...

تذكرت الشهادتين اللتين نطقت بهما بعد أن عجزت عن التنفس وفقدت الاحساس بالألم... عندما رأيت النور حولي من كل مكان كمن ينازع سكرات الموت بعد أن حوصرت بقوات الأمن من أربع جهات ينهالون ضربا علي كل سنتيمتر في جسدي حتي سقطت علي الأرض ميقنا أنني في طريقي للقاء الله بعد ثوان...
تذكرت كيف إنتابتني هيستريا وأخذت أردد فداكي يا مصر وأنا ملقي علي الأرض لاحول لي ولاقوة والدماء تنزف من جسدي وقد تركني جنود الأمن بعد أن ظنوا أنني إما هلكت أو في طريقي للهلاك...
تذكرت زحفي علي الأرض محاولا استجماع مابقي لي من قوة مبتعدا عن أحذية جنود الأمن ومرمي الرصاص وقنابل الغاز-لقد كانت ساحة حرب حقيقية،حرب يشنها الفرعون علينا- تذكرت هجوم المتظاهرين بشجاعة وبسالة أفواجا وراء أفواج لكسر حاجز الأمن المركزي وانقاذنا من براثنهم...
تذكرت الشباب الذين التفوا حولي في محاولة لإسعافي وحملي علي الوقوف وهم يتلقون عني الضربات بأجسادهم وأياديهم العارية...هؤلاء الشباب الذين لم اكن أعرفهم وحتي الآن لا أعرف حتي أسمائهم..الشباب الذين قرروا أن ينتزعوني واقفا من بين أيدي جنود الأمن أو يموتون معي...
تذكرت كيف وقفنا جميعا بعدها نرقب قوات الأمن تتراجع وتتراجع ....وقفنا جميعا ....وسقط  مبارك ...وسقط نظامه .....
الآن فقط تأكدت أن هذا كله لم يضع هباءا ..تلفت حولي لأستشف من وجوه الجالسين أي ملمح من ملامح التعاطف الذي خشيت أن أراه مع ذلك الثمانيني الراقد في تمثيلية علي سرير طبي...لكني لم ألمح إلا عيونا تلمع من الدموع وألسنة تنطق بالشكر لله والحمد له...واخترق أذني صوت ذلك العجوز الذي وقف باكيا هو الأخر ولسانه يلهج حمدا لله أن عاش ليري الظالم وقد أذله الله علي مسمع ومرآي من العالمين...
فشلت كل محاولات جلب التعاطف بمجرد أن رأي الناس ملامح إبنه الحالم بعرش مصر، إبنه الذي أعطاه الله كل شيء وسلب من وجهه الحياة، إبنه الذي كان يحمل مصحفا ظنا منه أنه سيستطيع محو حقيقة حكم أبيه الذي كان يمثل تناقضا مع كل المعاني التي نزل المصحف لتسود في هذه الأرض ..هذه الأرض التي أستبد بها أبوه وعاث فيها فسادا...
فشلت والناس يطالعون وجوه وزير داخليته وحراس نظامه الذين اختارهم واصطفاهم لنفسه زبانية مقربين يحمونه بالحديد والنار ..بالرصاص الحي والمطاطي...بزوار الفجر وقنابل الغاز..بأمن الدولة وتلفيق التهم....بالهراوات والعصي الكهربائية بالنفاق والكذب وتزييف الحقائق.
في تلك اللحظة تذكرت قولة جعفرالبرمكي لأبيه وهما في القيود والحبس سائلا إياه: يا أبتِ أبعد الأمر والنهي والسلطان والأموال العظيمة أصارنا الدهر إلى القيود، والحبس؟؟؟، فقال له أبوه: يا بني،إنها دعوة مظلوم سرت إلي الله بليل، غفلنا عنها ولم يغفل الله عنها..
وأي مظلوم دعا؟؟؟ إنهم زهاء 80 مليون مظلوم ..منهم من مات إبنه بالسرطان أمام عينيه ليحيا يوسف والي وعصابته في ترف...
ومنهم من غرق إبنه في إحدي العبارات-عبارة م اللي بيغرقوا دول- جريا وراء لقمة عيش ليحيا ممدوح إسماعيل وعصابته في بحبوحة من العيش...
ومنهم من تهدم بيته فوق رأسه ورأس أولاده ليرتفع بناء الفساد في المحليات أكثر وأكثر...
ومنهم من أمتهنت كرامته أمام زوجته وأولاده ..فقط لأنه ظن مخطئا أن له من الحقوق مثلما لباقي البشر وتجرأ وطلب حقه الطبيعي في حياة كريمة ...


اليوم واليوم فقط أدركت أن ماحدث لم يكن سوي البداية....بداية طريق طويل نحو الحرية والمدنية والتقدم....بداية لبناء دولة كبيرة لا يحكمها رمز كبير،بل يحكمها رجل أصغر دائما منها ومن شعبها..
بداية لمصر جديدة يكون فيها مصير كل طاغية يقتل شعبه ويسرق ثرواته ويصادر إرادته ويهين كرامته هو المحاكمة من خلف القضبان...
بداية لمجتمع يسوده العدل الذي لا يستثني أحدا أيا كان، وبداية لشعب جديد علي كل فرد فيه أن يثور علي الطاغية الذي يحكم بداخله والفاسد الذي يعشش بتفكيره...
خرجت من المقهي والإبتسامة تعلو وجهي وصوت أذان الظهر يتسلل إلي أذناي وقد تأكدت أن مرحلة "ما أريكم إلا ما أري وما أهديكم إلا سبيل الرشاد "قد انتهت الي الأبد وإلي غير رجعة ...
وبدأت مرحلة "الذين إستجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شوري بينهم"...."الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وأتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور"
عاشت مصر حرة..
عاشت مصر لعروبتها وإسلامها..
وعاشت مصر للمصريين حقا...