الأربعاء، 31 أغسطس 2011

في مطار هيثرو...


جو الشتاء الحزين ودفء البيت والحنين لشيء ما .. كل هذا يغريك بأن تلصق أنفك بزجاج النافذة وتحلم .. لكن هناك دائما منذ ميلاد البشرية ما يرغم الإنسان على الخروج تحت الأمطار ذاهباً لمكان ما ..

درجات الحرارة تتجاوز الخمس درجات بقليل...عقارب الساعة تشير إلي منتصف ليل لندن...ممسكا بكوب القهوة بين يدي أقف بإنتظار النداء الأخير لركاب طائرة مصر للطيران المتجهة للقاهرة في صالة السفر رقم خمسة في مطار هيثرو ، أطالع الطائرات تهبط أو في سبيلها للإقلاع  من خلال الواجهة الزجاجية التي تفصل مبني الركاب عن مدرج المطار...
 قطرات المطر تواصل اصطدامها بزجاج الواجهة صانعة ذلك الصوت المحبب إلي نفسي ...
حسنا ..إنها ليلة عيد الأضحي في لندن..

من سماعات ال ipod تنساب الي أذني أغنيتي المفضلة في العامين الأخيرين... تلك الأغنية التي دائما ما تداعب جزءا رماديا من خلايا عقلي ...مذكرة إياي بأيام وسنين مضت ...
بأحلام تحققت وأخري تحطمت...
بدمعات سالت وقهقات علت...
بنجاحات وإخفاقات..لقد ذكرتني بالكثيرجدا...


ذكرتني بفرحتي الغامرة يوم تلقيت رسالة القبول من تلك الجامعة الإنجليزية العريقة ضمن خمسة طلاب أخرين من خارج أنجلترا  لإستكمال دراستي بها....

و بوجه أبي الذي كاد ينفجر غضبا عندما علم بإستقالتي من عملي ونيتي السفر...ساعتها أتهمني بالتهور والاندفاع وبأننا ( جيل من المستعجلين) ...



ذكرتني بدعوات أمي لي ساعة الوداع  في المطار من وسط دموعها  أن أعود مجبور الخاطر سالما...

ذكرتني بيد أبي المرتجفة التي ربتت علي كتفي يومها وتلك الدمعة التي حبسها بإقتدار في مقلتيه وهو يوصيني بالصلاة والقرآن في غربتي...

ذكرتني باللحظة الأولي التي وضعت أقدامي فيها علي أرض لندن وكيف كنت أشعر وقتها أني أطير علي سطح الأرض لا أمشي علي ظهرها...

ذكرتني بسيري لساعات وحيدا في شوارع بادينجتون وكامدن و أكسفورد ،لا ألوي علي شيء اللهم إلا تنفيسا عن شحنة  إكتئاب تحاول جاهدة إحتلال عقلي والسيطرة عليه...

جسر البرج الذي قطعته سيرا عشرات المرات متنشقا نسائم نهر التايمز ...


وتحديقي لساعات في تماثيل ويستمنستر وتايت جاليري ومدام توسو...

وسهر الليالي وأكواب القهوة أيام الامتحانات...

ذكرتني بذلك الإحساس الشنيع بالوحدة في ليلة ممطرة ضبابية من ليالي لندن الكثيرة الضباب.. و ذلك الخوف من مجهول قد يحدث في أي وقت...

ذكرتني بتلك الحيرة التي انتابتني ساعة تلقيت عرضا من الجامعة للإستمرار بين صفوفها كباحث بعد أنتهاء دراستي...


 بصديق سكني الفلسطيني الذي كاد أن يجن عندما علم أنني حسمت قراري بالعودة لمصر للبدء هناك من جديد مبشرا إياي بأن كلها شهر في مصر و هضرب نفسي( بالصرماي)-علي حد قوله- جزاءا وفاقا  لقراري هذا
لا أدري كيف سقطت نسائم نهر التايمز أمام نسمات نهر النيل ولا جسرالبرج أمام كوبري قصر النيل ولا برج بيج بين أمام برج القاهرة...حقا لا أدري...

لا أدري لماذا كنت مشتاقا لهذا الحد لنزهة في شوارع وسط البلد وطلعت حرب بينما أنا أتجول ليل نهار في شارع إكسفورد وبيكاديللي وأتنزه في ريجنت وسانت جيمس بارك....

لا تسألني كيف كنت مستعدا أن أعود الي مصر سيرا علي الأقدام من أجل ساندوتش فلافل من جاد عندما كنت أجلس في شيبرياني أو روست أو شاركليز لتناول طعام الغداء...  

(النداء الأخير علي ركاب مصر للطيران الرحلة رقم 858 المتجهة للقاهرة ،الرجاء التوجه للبوابة رقم 7)

إنه نفس ذلك  الشعور ينتابني مرة أخري ...لم أكن أسير علي قدمين..لقد كنت أطير علي سطح الأرض...متخذا طريقي بسرعة وسط هذه الأمواج المتلاطمة من البشر ...أسابق الزمن لأعود ...

أتخيل وجه أمي الضاحك ودموعها المنهمرة في آن واحد فرحا بعودتي...أشعر بدفء كوب الشاي في يدي وسط أحضان الرفاق في مصر وجلساتنا علي البورصة...أتشمم نسمات الهواء في الحسين وشبرا والعتبة وشوارع وسط البلد وخان الخليلي والأزهر تهب علي وجهي...

ذلك الهواء البارد الذي يلامس وجهي برفق علي  إمتداد كورنيش النيل..وتلك النظرة الصافية الحنون التي ألمحها في عيون كل أم مصرية وتدفعني دفعا لتقبيل أياديهن ...

تلك البسمة التي تعلو وجه الفقراء والكادحين والبسطاء علي الرغم من قسوة الحياة....ذلك الدفء الحميمي الذي تشعر به في كل شبر من شوارع مصر رغم صخبها الذي لا يتوقف ... وليلها الساهرالذي لا ينام..

مصر ..الهرم والأزهر...مصر صوت الشيخ رفعت والنقشبندي ..أم كلثوم وعبد الوهاب....مصر التي رأيتها في روايات نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم والعقاد....

(توصل بالسلامة ان شاء الله)
لم يقطع إنهمار أفكاري إلا صوت تلك الفتاة الخمرية التي تقف مبتسمة بصدق علي باب الطائرة وملامحها تصرخ بالمصرية الخالصة...

ربطت حزام مقعدي ..ومن النافذة تطلعت للمرة الأخيرة علي لندن...

سأفتقد هذا الضباب كثيرا...

كانت رائعة عمر خيرت لاتزال تنساب إلي أذني ...
هي تلك الأغنية التي داعبت خلايا عقلي ... أغنيتي المفضلة في العامين الأخيرين...
ارتفعت عجلات الطائرة عن الأرض وإنسابت الدموع التي حبستها في عيناي طويلا...وعلت وجهي إبتسامة عريضة...
عندها فقط تأكدت أنني أذوب في غرام معشوقتي ..حتي الثمالة.....في غرام مصر.


الأحد، 28 أغسطس 2011

محاكمة الفرعون..




ثالث أيام الصيام في رمضان..الساعة الحادية عشرة ظهرا، حلقي يكاد يتشقق من العطش وقلة الماء...ولكن لن أرتوي قبل سبع ساعات أخري علي الأقل، بقلق راقبت صفحات الفيس بوك علي جوالي لأتأكد أن إجراءات محاكمة القرن تسير في السياق الطبيعي وأن شيئا غير عادي لم يحدث ،غير أني لم أكن حتي لحظتها أتوقع أني سأري مبارك ونجليه خلف القضبان...شيء ما في داخلي كان لا يزال غير مصدق لما يذاع علي الجزيرة وCNN حتي تلك اللحظة من أن المحاكمة ستبدأ خلال دقائق.

شحنة القلق والتوتر بداخلي كانت أكبر من أن أستطيع السيطرة عليها مواصلا عملي ،أخذت سيارتي وانطلقت للبيت ،مع مرور الدقائق وفي منتصف الطريق زاد توتري أضعافا وارتعشت يداي ،ولم أشعر بقدمي علي دواسة البنزين ولم أنتبه إلا ومؤشر السرعة يتجاوز ال140 كم معلنا أن السرعة تتضاعف...كنت أسابق الزمن لأصل لأي مقهي أتابع من خلاله مايحدث وأتأكد بأم عيني من أن مصر تتغير بالفعل..
من أعلي كوبري 6 أكتوبر الي غمرة وهاهو ميدان رمسيس يلوح من بعيد...ياربي ما كل هذا الازدحام..فجأة قررت أن أصف سيارتي في أي مكان لأترجل منها جريا ...أصف سيارتي في رمسيس؟؟؟طب بأمارة إيه؟؟ إن ظهور العنقاء والغول قد يحدث قبل أن أجد مكانا يصلح لركن سيارتي ...وقعت عيني بمعجزة علي مسافة متر واحد حشرت فيه طرف السيارة و نزلت منها مهرولا أبحث بعيني عن أي جهاز تلفزيون في أي مقهي علي مقربة.

وجدته.. وأخيرا..بسرعة البرق اندفعت مقتحما المكان وتسمرت في منتصف المقهي أجول ببصري.....و .......وشاهدته.......
شاهدت الفرعون يدخل القفص بصحبة أولاده و6 من زبانية الداخلية....وعندها فقط لم أتمالك نفسي .....وبكيت.....بكيت بغزارة......وعلي الفور وجدتني أعيش من جديد كل ثانية وكل دقيقة عشتها يوم جمعة الغضب....يوم سالت  دماء الكرامة في أرجاء مصر و وسط ميادينها...

تذكرت كل لحظة بتفاصيلها......تذكرت هلعي ورعبي علي أخي الذي رأيته يسقط مصابا أمام عيني والدماء تغطي وجهه...
تذكرت رغبتي في أن يتنحي مبارك في هذا اليوم ممنيا نفسي بتحقيق نصر سريع وخاطف...
تذكرت خوفي من الموت الذي جعلني أكتشف أنني أحب الحياة ...لكنني اكتشفت لحظتها أنني لم أكن قد عشتها حقا قبل أن أنزل طلبا لها في وطن تسوده الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية ...
تذكرت دخان القنابل التي أعجزتنا عن الرؤية أو الإستنشاق فوق كوبري قصر النيل...
تذكرت دوي طلقات الرصاص بينما نحن نتقدم بإتجاه ميدان التحرير وشباب مصر يتسا قطون واحدا تلو الأخر...
تذكرت رفيق طفولتي وزميل دراستي وهو يسير ممسكا بيدي نتقدم بإتجاه ضابط يصوب سلاحه علينا غير مصدقين أنه سيطلق الرصاص لأننا نهتف بإسم مصر....
تذكرته وقد أصابته الطلقة في منتصف صدره وإنفجرت منه علي إثرها الدماء لتغرق وجهي وملابسي...
تذكرت نظرة عينيه نحوي وهو في الرمق الأخير مسندا ظهره لسور الكوبري مبتسما ودامعا في آن واحد ويده تسقط بجواره بعلامة النصر والدم ينسال من بين شفتيه مصمما علي أن تحيا مصر...

تذكرت الشهادتين اللتين نطقت بهما بعد أن عجزت عن التنفس وفقدت الاحساس بالألم... عندما رأيت النور حولي من كل مكان كمن ينازع سكرات الموت بعد أن حوصرت بقوات الأمن من أربع جهات ينهالون ضربا علي كل سنتيمتر في جسدي حتي سقطت علي الأرض ميقنا أنني في طريقي للقاء الله بعد ثوان...
تذكرت كيف إنتابتني هيستريا وأخذت أردد فداكي يا مصر وأنا ملقي علي الأرض لاحول لي ولاقوة والدماء تنزف من جسدي وقد تركني جنود الأمن بعد أن ظنوا أنني إما هلكت أو في طريقي للهلاك...
تذكرت زحفي علي الأرض محاولا استجماع مابقي لي من قوة مبتعدا عن أحذية جنود الأمن ومرمي الرصاص وقنابل الغاز-لقد كانت ساحة حرب حقيقية،حرب يشنها الفرعون علينا- تذكرت هجوم المتظاهرين بشجاعة وبسالة أفواجا وراء أفواج لكسر حاجز الأمن المركزي وانقاذنا من براثنهم...
تذكرت الشباب الذين التفوا حولي في محاولة لإسعافي وحملي علي الوقوف وهم يتلقون عني الضربات بأجسادهم وأياديهم العارية...هؤلاء الشباب الذين لم اكن أعرفهم وحتي الآن لا أعرف حتي أسمائهم..الشباب الذين قرروا أن ينتزعوني واقفا من بين أيدي جنود الأمن أو يموتون معي...
تذكرت كيف وقفنا جميعا بعدها نرقب قوات الأمن تتراجع وتتراجع ....وقفنا جميعا ....وسقط  مبارك ...وسقط نظامه .....
الآن فقط تأكدت أن هذا كله لم يضع هباءا ..تلفت حولي لأستشف من وجوه الجالسين أي ملمح من ملامح التعاطف الذي خشيت أن أراه مع ذلك الثمانيني الراقد في تمثيلية علي سرير طبي...لكني لم ألمح إلا عيونا تلمع من الدموع وألسنة تنطق بالشكر لله والحمد له...واخترق أذني صوت ذلك العجوز الذي وقف باكيا هو الأخر ولسانه يلهج حمدا لله أن عاش ليري الظالم وقد أذله الله علي مسمع ومرآي من العالمين...
فشلت كل محاولات جلب التعاطف بمجرد أن رأي الناس ملامح إبنه الحالم بعرش مصر، إبنه الذي أعطاه الله كل شيء وسلب من وجهه الحياة، إبنه الذي كان يحمل مصحفا ظنا منه أنه سيستطيع محو حقيقة حكم أبيه الذي كان يمثل تناقضا مع كل المعاني التي نزل المصحف لتسود في هذه الأرض ..هذه الأرض التي أستبد بها أبوه وعاث فيها فسادا...
فشلت والناس يطالعون وجوه وزير داخليته وحراس نظامه الذين اختارهم واصطفاهم لنفسه زبانية مقربين يحمونه بالحديد والنار ..بالرصاص الحي والمطاطي...بزوار الفجر وقنابل الغاز..بأمن الدولة وتلفيق التهم....بالهراوات والعصي الكهربائية بالنفاق والكذب وتزييف الحقائق.
في تلك اللحظة تذكرت قولة جعفرالبرمكي لأبيه وهما في القيود والحبس سائلا إياه: يا أبتِ أبعد الأمر والنهي والسلطان والأموال العظيمة أصارنا الدهر إلى القيود، والحبس؟؟؟، فقال له أبوه: يا بني،إنها دعوة مظلوم سرت إلي الله بليل، غفلنا عنها ولم يغفل الله عنها..
وأي مظلوم دعا؟؟؟ إنهم زهاء 80 مليون مظلوم ..منهم من مات إبنه بالسرطان أمام عينيه ليحيا يوسف والي وعصابته في ترف...
ومنهم من غرق إبنه في إحدي العبارات-عبارة م اللي بيغرقوا دول- جريا وراء لقمة عيش ليحيا ممدوح إسماعيل وعصابته في بحبوحة من العيش...
ومنهم من تهدم بيته فوق رأسه ورأس أولاده ليرتفع بناء الفساد في المحليات أكثر وأكثر...
ومنهم من أمتهنت كرامته أمام زوجته وأولاده ..فقط لأنه ظن مخطئا أن له من الحقوق مثلما لباقي البشر وتجرأ وطلب حقه الطبيعي في حياة كريمة ...


اليوم واليوم فقط أدركت أن ماحدث لم يكن سوي البداية....بداية طريق طويل نحو الحرية والمدنية والتقدم....بداية لبناء دولة كبيرة لا يحكمها رمز كبير،بل يحكمها رجل أصغر دائما منها ومن شعبها..
بداية لمصر جديدة يكون فيها مصير كل طاغية يقتل شعبه ويسرق ثرواته ويصادر إرادته ويهين كرامته هو المحاكمة من خلف القضبان...
بداية لمجتمع يسوده العدل الذي لا يستثني أحدا أيا كان، وبداية لشعب جديد علي كل فرد فيه أن يثور علي الطاغية الذي يحكم بداخله والفاسد الذي يعشش بتفكيره...
خرجت من المقهي والإبتسامة تعلو وجهي وصوت أذان الظهر يتسلل إلي أذناي وقد تأكدت أن مرحلة "ما أريكم إلا ما أري وما أهديكم إلا سبيل الرشاد "قد انتهت الي الأبد وإلي غير رجعة ...
وبدأت مرحلة "الذين إستجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شوري بينهم"...."الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وأتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور"
عاشت مصر حرة..
عاشت مصر لعروبتها وإسلامها..
وعاشت مصر للمصريين حقا...