الثلاثاء، 13 سبتمبر 2011

مدرسة الحياة




هل الحياة هي مواقف متشابهة تتكرر في أوقات مختلفة؟؟؟
هل حدث لك قبلا أن مررت بموقف ما وسط أحداث حياتك اليومية فشعرت بزلزال يعصف بك من الداخل وأحسست كما لو أنك تعيد تنفيذ مشهد رأيته أنت من قبل أو كنت طرفا فيه في وقت سابق ما؟؟؟؟
أعتقد أن الفلسفة لا تجدي نفعا في مثل تلك الأمور..تعالوا أذكر لكم بداية الحكاية ...أو لنقل بداية الحكايتين..
الأولي هي تلك التي حدثت مع الكاتب الامريكي لفنجستون لارند والتي دارت أحداثها كالتالي:
كان المؤلف الأمريكي في السابعة من عمره وكان يهيم غراما بمتجر مستر جونز الموجود علي قارعة الطريق..السبب طبعا هو أنه متجر لبيع الحلوي ..هناك عبر النافذة المطلة علي الشارع كان يقف ليرمق العالم السحري بالداخل،قطع الجاتوه المكسوة بالشيكولاته والكريم وقد غرست فيها أعلام صغيرة أو أعواد ثبتت عليها الفواكه المسكرة.التفاح المكسو بالسكر..تماثيل مختلفة من الشيكولاته، وقلعة شيدت منها تقف فوق جبل من الكريمة..عشرات الأنواع من حلوي النعناع التي تذوب في الفم تاركة نارا لها نشوة...
لم يكن يملك قط المال اللازم لشراء ما يريد،فهو من أسرة فقيرة،وهو يعرف أن أسعار هذه الأنواع من الحلوي تفوق قدراته..إلي أن جاء اليوم الذي ادخر فيه ما يكفي..
اقتحم المحل فدق الجرس الصغير المعلق بالباب ليخبر مستر جونز أن هناك زبونا.خرج الرجل العجوز الطيب الذي يضع عوينات تنزلق علي قصبة أنفه ،وتأمله وهو يجفف يده في منشفة،وسأله:
-ماذا تريد أيها الصغير؟
اتجه المؤلف الصغير إلي قطع الجاتوه وأشار لها بثقة:
-أريد خمس قطع من هذه..
ابتسم العجوز ودس يده في قفازين وانتقي للفتي بعض القطع التي طلبها، وهو يتلقي التعليمات:لا أريد التي عليها قشدة كثيرة..لتكن الشيكولاتة ..نعم نعم تلك التي تلمع هناك ...في النهاية أغلق العجوز علبة صغيرة ونظر للصبي متسائلا،فأشار إلي التماثيل المصنوعة من الشيكولاته:
-أريد هذا القط وهذا الحصان...ممممم أريد هذا القصر الصغير..هل هذه عربة؟؟..ضعها لي
قال مستر جونز في شيء من الحذر :
-هل معك من النقود ما يكفي هذا كله يا صغيري؟؟
-نعم ..نعم
الآن انتقي بعض حلوي النعناع، وكان هناك الكثير من غزل البنات الذي مازال ساخنا فانتقي منه كيسين، واختار بعض الكحك..
في النهاية صارت هناك علبة كبيرة معها كيس عملاق امتلأ بالأحلام، وسأله مستر جونز:
-هل هذا كل شيء؟..سأحسب..
هنا مد المؤلف الصغير يده في جيبه وأخرج ماله..أخرج قبضة من البلي الملون الذي يلعب به الأطفال ووضعه في يد العجوز، وقال في براءة
-هل هذا كاف؟؟
لا يذكر المؤلف التعبير الذي ارتسم علي وجه مستر جونز ..ما يذكره هو أنه صمت قليلا ،ثم قال بصوت مبحوح وهو يأخذ البلي:
-بل هو زائد قليلا..لك نقود باقية
ثم دس بعض قطع العملة في قبضة الصغير، ومن دون كلمة حمل الصغير كنزه وغادر المتجر..
لقد نسي هذا الحادث تماما ومن الواضح أن أمه لم تكن فضولية فلم تسأله من أين جاء بهذا، كما يبدو أنه لم يجرب ذلك مرة ثانية..فيما بعد غادرت الأسرة المنطقة وانتقلت إلي نيويورك..
ومرت السنين ..الآن صار الكاتب شابا في بداية العمر،وقد تزوج بفتاة رقيقة اتفق معها أن يكافحا ليشقا طريقهما سويا..كان كلاهما يعشقان أسماك الزينة لذا اتفقا علي افتتاح متجر لهذه الأسماك..
في اليوم الأول انتثرت الأحواض الجميلة في كل مكان ،وقد ابتاعا بعض الأسماك غالية الثمن..وكما هو متوقع لم يدخل المتجر أحد..
عند العصر فوجيء بطفل في الخامسة من عمره يقف خارج الواجهة وإلي جواره طفلة في الثامنة..
كانا يرمقان الأسماك في انبهار وإعجاب..وفجأة انفتح الباب وتقدمت الطفلة وهي تتصرف كسيدة ناضجة تفهم العالم أو كأنها أم الصبي..وحيت المؤلف هو وزوجته وقالت:
-أخي الصغير معجب بالأسماك لذا أريد أن اختار له بعضها..قال لها إن هذا بوسعها بالتأكيد، لكنه شعر بأن هناك شيئا مألوفا في هذا الموقف...متي مر به من قبل؟؟لعله واهم؟..
اتجهت الفتاة إلي حوض أسماك المقاتل السيامي وهي باهظة الثمن رائعة الجمال،واختارت اثنتين فأحضر المؤلف دلوا صغيرا والشبكة وبدأ ينقل ماتريد..ثم اتجهت إلي حوض أسماك استوائية نادرة واختارت ثلاث سمكات..وكانت تصغي لاختيارات أخيها الذي يهتم بالأسماك الكبيرة زاهية اللون طبعا..
في النهاية امتلأ الدلو ووجد نفسه يقول لها:
-أرجو أن تعودي للبيت سريعا قبل أن ينفد مافي الماء من هواء ، كما أرجو أن يكون ما معك من مال كافيا فهذه ثروة صغيرة
قالت الطفلة في ثقة:
-لا تقلق فقط ضع لي هذه وهذه...وهذه أيضا
بدأ يجمع ثمن ما وضعه في الدلو،وذكر الرقم المخيف للطفلة،لكنها لم تبد مدركة لمعني الرقم أصلا..مدت يديها في جيبها وأخرجت قبضتين مليئتين بحلوي النعناع وبعثرتها أمامه وسألته في براءة:
-هل هذا كاف؟؟
هنا شعر بالرجفة ..لقد تذكر كل شيء..تذكر صبيا في السابعة يجمع كل ما في محل المستر جونز من حلوي ومنذ خمسة وعشرين عاما أو أكثر ..تذكر البلي..تري بم شعر المستر جونز وقتها؟؟
لن تسأل كيف تصرف فقد تصرف فعلا..رباه! !
كان مستر جونز قد وجد نفسه في موقف حساس ،ولم يستطع أن يجازف ببراءة الصبي أو أن يشعره بالحرمان..لم يتردد كثيرا..وبالمثل لم يتردد المؤلف
قال بصوت مبحوح للطفلة وهو يجمع حلوي النعناع ويضعها في الدرج:
-بل هو زائد قليلا..لك نقود باقية.
ودس في يدها الصغيرة بعض قطع العملة،فقالت في رضا وببراءة:
-شكرا يا سيدي ..سأخبر كل صديقاتي عنك!!
وغادرت المحل مع أخيها ..هنا وثبت زوجته من حيث جلست تتابع هذا الموقف وصاحت في توحش:
-هل تعرف ثمن السمك الذي أخذته هذه الطفلة؟؟..إنه يقترب من خمس رأس مالنا!!
قال لها وهو يرمق الصغيرين يهرعان تحت شمس الطريق:
-أرجو أن تصمتي ..لقد كان هناك دين ثقيل علي كاهلي علي مدي خمسة وعشرين عاما نحو عجوز يدعي مستر جونز،وقد سددته الآن!!الآن فقط...
.....
.....
.....
.....
الحكاية الثانية حدثت معي
كما سجلتها في تلك النوتة الزرقاء..التي أهرع إلي صفحاتها كلما مررت بموقف صعب علي تفسيره أو تبريره..أو بحدث شعرت بجلاله في مسير حياتي...
12\أغسطس\1994عمري 9 سنوات
أرسلنى أخي الأكبر اليوم لأشترى بعض الأغراض من عند البقال المجاور للبيت. بعد إتمام المهمة وفى مشوار العودة إلي منزلي –الذي لايزيد عن خمسين مترا-وبينما أحمل فى كلتا يدى أكياس البقالة و خمسة جنيهات هي ما تبقى من النقود التى أعطانيها أخى، برز لى فتى كبير أحفظ جيدا شكله وهيئته فهو أحد متشردي المنطقة التي أسكن فيها،إنقض علي وفى حركة خاطفة انتزع من بين يدي ما أحمل من نقود ثم أطلق ساقيه للريح. جريت وراءه وأنا أصرخ حتى بح صوتى، لكننى لم أستطع اللحاق به، فعدت إلى البيت مروعا مقطوع الأنفاس أجر أذيال الخيبة.
حكيت ما حدث فكانت النتيجة علقة ساخنة بالعصا من والدى، ألهبت كل جزء فى جسمى الصغير. حاولت أن أشرح أننى لم أهمل وأن الموقف كان أكبر منى، فالفتى كبير وقد باغتنى وأنا أحمل كيسا كبيرا خفت أن يقع وتتبعثر محتوياته لو قمت بمطاردته.. وحتى المطاردة لم تكن لتفلح وإن لحقت به، وذلك للاختلال الجسيم فى موازين القوة، وربما أصابنى بمطواة أو موس حلاقة. لكن كل هذا لم يشفع لى ولم يجعل أبى أو اخي يقتنعان بمبرراتى ويتنازلان عن اتهامهما لى بالإهمال والرقاعة...
26\يوليو\2007-عمري 22 عاما
اليوم حدث شيء غريب جدا،أرسلت أخي الصغير لشراء الجرائد التي اطالعها كل صباح من بائع الجرائد الذي لا يبعد أكثر من خمسين مترا عن منزلنا الجديد الذي إنتقلنا إليه مؤخرا ولسبب ما-لا أعلمه- وجدت في نفسي رغبة ملحة أن أقف في البلكونة لأرقب ذهاب أخي وعودته بعد أن خرج هو من البيت في طريقه لشراء الصحف...وهالني مارأيت
فبعد 13 عاما تكرر الموقف بحذافيره مع أخي الأصغر..ولكني كنت شاهدا هذه المرة علي ماحدث..شاهدت متشردا كبير الحجم يقترب من أخي ويخطف من بين يديه ماتبقي من النقود التي كان عائدا بها، وشاهدت أخي يصرخ تماما كما فعلت أنا قبله ب13 سنة، ويجري محاولا إدراك اللص، ولما أدرك أن ميزان القوة في غير صالحه،وأنه لاجدوي من الصراخ أو محاولات اللحاق بذلك المتشرد، لملم الجرائد التي تبعثرت منه وإلتفت عائدا إلي المنزل ،باكيا وكل جزء في جسده الصغير يرتعش من أثر الصدمة وخوفا من العقاب الذي ينتظره علي يدي.
لكني شعرت بأن هناك شيئا مألوفا في هذا الموقف...متي مررت به من قبل؟؟لعلي واهم؟؟؟؟؟؟؟..و... وتذكرت..
عادت بى الذاكرة إلى يوم عدت إلى البيت مهزوما مكسور الوجدان، وانخلع قلبى لرؤية أخى خائفا فأخذته فى حضنى لأهدئ من مخاوفه،قائلا له:ولايهمك..المهم أنك بخير..
ثم بذلت جهدا فى إقناعه بأنه ليس جبانا ولا خوافا لكنه واجه موقفا أكبر منه ولم يكن مما حدث بد، وأقنعته أنه ليس عليه أن يخجل من الموقف لأننى أنا نفسى..-أخوه الذي يقتدي به- الذى يأتى بالعجائب والمعجزات حدث معى الأمر نفسه زمان ولم أستطع أن أفعل شيئا..وقد هون عليه ذلك الأمر كثيرا..وظللت محتضنا إياه حتي سكنت نفسه..
لم أكن أعلم وقتها أن أبي يرقب كلانا من بعيد وينتظر ليري ما سيحدث...وعندها لمعت عيون أبي،تلك اللمعة التي أعرفها جيدا وأحفظها عن ظهر قلب..والتي تعني أنه تذكر ما جري معي منذ سنين مضت..
هي الحياة إذن ..نفس الدروس نتلقاها مع اختلاف التوقيت..واختلاف الشخوص..ولكن تبقي الأحداث واحدة ..متشابهة ومتماثلة بشكل مذهل...
هكذا هي الحياة ميراث لا ينقطع ..وما ستفعله بمن هم أصغر منك سوف يكررونه مع من هم أصغر منهم عندما يكبرون..بل ربما يكررونه معك أنت....كما تدين تدان..وكما كنت أنت اليوم من يتلقي درس الحياة فربما تكون غدا أنت من يلقي الدرس ..نفس الدرس ..ونفس الأحداث..ولكن الأسماء تختلف!!

السبت، 3 سبتمبر 2011

ما معني الحب يا أبي؟؟



يسير ممسكا بيدها الصغيرة ..وسط تلك المساحة الخضراء الشاسعة ... شواهد القبور تطل عليهما من كل صوب ...وهما يسيران بملابسهما البيضاء كملائكة وسط القبور...
في الجو نسمة باردة تهب بنعومة لتلامس وجهه ..وتتلاعب بشعر صغيرته الأشقر....الشمس لازالت تواصل طريقها لأعلي السماء ...
أمام قبر بعينه يعرفه هو جيدا توقف  ومعه طفلته الصغيرة..
كان شاهد القبر مكتوبا عليه....."هنا ترقد بكل الحب .........."
-ما معني الحب يا أبي؟؟
نطقتها الصغيرة ذات السبعة أعوام ببراءة ، سائلة أباها الذي وقف بجوارها دامع العينين.. صامتا  مطرقا إلي الأرض... محدقا إلي قبر زوجته ....
تلك الصغيرة لا تعلم معني الموت ....هي فقط تعلم أن أمها في السماء...  
إنتزعه السؤال من  شروده و أحزانه فنظر إلي إبنته بحنان ولمعت عيناه وهو يتذكر كيف كانت البداية...بداية الرحلة...
تذكر المرة الأولي التي وقعت عيناه علي فتاته وكيف إلتقت عيناهما بصمت  وخجل...
تذكر إرتباكه وخوفه الذي سيطر عليه يوم قرر أن يصارحها بحبه لها ورغبته في الزواج منها...
تذكر كيف كاد يسقط علي وجهه مغشيا عليه عندما أعلمته بموافقتها... وهو يخبرها أن كل وظيفته في الحياة ستكون هي سعادتها...وسعادتها فقط..
تذكر لهفة الشوق لها... وتلك القشعريرة التي كانت تسري في جسده كلما نظر في عينيها أو أمسك يديها...
تذكر كيف  كانا يتسابقان سويا في صعود تلك التلة جريا غير عابئين بنظرات الناس من حولهما....وكيف كان يتركها تسبقه بطفولة ماكرة... متظاهرا بالتعب...حتي تعيش هي نشوة الإنتصار....كان يحبها بصدق...
تذكر ذلك الترقب واللهفة التي ملأت عينيها وهي تنتظر سماع رأيه في طهيها للمرة الأولي وكأنها تنتظر حكما من قاض...
تذكر كيف كانا يسيران سويا ...يتندران ويتشاجران ويتناجيان ....وهي متعلقة بذراعه...
تذكر كيف واسته عندما فقد عمله وضاقت عليه الدنيا... إلا منها...تلك الثقة اللامحدودة والغريبة التي كانت تمنحه إياها بإقتدرا...
تذكر كيف باعت حليها وأعطته كل مالها عن طيب خاطر ليستعين به علي بدء تجارة جديدة...داعية له بنفس  خالصة وعيون دامعة  أن يوفقه الله وأن يفتح له أبواب الرزق واسعةً....
تذكر كيف كانت تضحك بمنتهي البراءة وتنظر له بإمتنان شديد عندما يدخل عليها حاملا بين يديه وردة أو قطعة من الشيكولاته التي تعشقها كثيرا...
.... كيف كانت تشعره بأنها أسعد إمرأة في الدنيا فقط لأنهما يجلسان سويا يشاهدان فيلمها المفضل في المنزل

تذكر فرحتها و تلك الدموع التي إنهمرت في عينيها عندما علمت بخبر حملها وأنها قريبا ستصبح أماً...
تذكر مشاق الحمل علي جسدها الضئيل ...وسهر الليالي وزيارات الأطباء وألام الوضع ..والفرحة بصراخ تلك الطفلة الصغيرة التي أعلنت وصولها لتشاركهما حياتهما معا....
تذكر إبتسامة الرضا والعرفان التي علت شفتيها عندما أصر هو أن يطلق إسمها علي طفلتهما الوليدة ...
تذكر جو البهجة والسرور الذي أدخلته تلك العابثة الصغيرة علي بيتهما السعيد ...
تذكر كيف كانا يتشاجران بطفولة بريئة علي من يدفع سيارة الإبنة الوليدة في الشارع...
تذكر كيف كانت تسهر علي راحته  ليلا ممسكة بقدح القهوة منشغلة بالقراءة او بمشاهدة التلفزيون  حتي لا يسهر وحيدا وهو يراجع صفقة ما أو يستعد لمشروع جديد.....
كم من مرة عاد للبيت متأخرا ليجدها تقف بإنتظاره مرحبة بعودته كمن عادت إليها حياتها مرة أخري...
...تذكر تلك الألام المتكررة التي كانت تجاهدها في صمت ...خوفا من أن تزعجه أو تفزعه...فهي تعلم كم يحبها بجنون

تذكر تلك الإبتسامة الشاحبة التي علت وجهها وهي تحمد الله عندما سمعت خبر إصابتها بذلك المرض اللعين ...
ذلك المرض الذي سلبها مع مرور الزمن وجلسات العلاج كثيراً من أنوثتها ...هي كانت تشعر بذلك ،وهو يراها تزداد جمالا كل يوم عن سابقه ....
تذكر كيف كانت تسأله كل صباح إن كان لا يزال فعلا يحبها؟؟
وتذكر كيف كان يحتضنها بحب مطمئنا إياها أنه لم يخلق لسواها...
تذكر كيف نهرها بعنف ثم إحتضنها بين ذراعيه وضمها إلي صدره بقوة وبكيا سويا عندما خيرته بين الإستمرار في حياته معها كنصف زوجة أو الزواج من أخري....
تذكر كيف نظرت له للمرة الأخيرة وتلك الأسلاك والخراطيم موصلة لجسدها الرقيق من كل مكان وهي تخبره أنه أفضل ماحدث لها في حياتها و توصيه أن يتخير لإبنتهما أما جديدة...
تذكر كيف لفظت بين ذراعيه أنفاسها ...وكيف  بكي ساعتها كالطفل الصغير الذي فقد أمه في الزحام ....
تذكر كيف شعر في تلك اللحظة أنه فقد حضنه الدافيء وملاذه الآمن كان يلجأ إليه  لينسي همومه ويستريح...
كيف كان يشكو لها قسوة الأيام فتواسيه ، وكيف كانت نعم السند والمعين...
تذكر كيف شعر أنه بات  شيخا هرما يومها وهو لم يجاوز الثانية والثلاثين بعد....وأن شيئا ما قد انكسر في صدره إلي الأبد...
-أبي؟؟؟ألم تسمعني؟؟ ما معني الحب يا أبي؟؟
بحنان ...نظر إلي إبنته من جديد...كانت نسخة مكررة من ملامح أمها...
وبرفق قبض علي أصابعها الصغيرة وسارا سويا مبتعدين...وهو يجيبها بصوت تخنقه الدموع:
-الحب يا ابنتي هو أمك.