السبت، 3 سبتمبر 2011

ما معني الحب يا أبي؟؟



يسير ممسكا بيدها الصغيرة ..وسط تلك المساحة الخضراء الشاسعة ... شواهد القبور تطل عليهما من كل صوب ...وهما يسيران بملابسهما البيضاء كملائكة وسط القبور...
في الجو نسمة باردة تهب بنعومة لتلامس وجهه ..وتتلاعب بشعر صغيرته الأشقر....الشمس لازالت تواصل طريقها لأعلي السماء ...
أمام قبر بعينه يعرفه هو جيدا توقف  ومعه طفلته الصغيرة..
كان شاهد القبر مكتوبا عليه....."هنا ترقد بكل الحب .........."
-ما معني الحب يا أبي؟؟
نطقتها الصغيرة ذات السبعة أعوام ببراءة ، سائلة أباها الذي وقف بجوارها دامع العينين.. صامتا  مطرقا إلي الأرض... محدقا إلي قبر زوجته ....
تلك الصغيرة لا تعلم معني الموت ....هي فقط تعلم أن أمها في السماء...  
إنتزعه السؤال من  شروده و أحزانه فنظر إلي إبنته بحنان ولمعت عيناه وهو يتذكر كيف كانت البداية...بداية الرحلة...
تذكر المرة الأولي التي وقعت عيناه علي فتاته وكيف إلتقت عيناهما بصمت  وخجل...
تذكر إرتباكه وخوفه الذي سيطر عليه يوم قرر أن يصارحها بحبه لها ورغبته في الزواج منها...
تذكر كيف كاد يسقط علي وجهه مغشيا عليه عندما أعلمته بموافقتها... وهو يخبرها أن كل وظيفته في الحياة ستكون هي سعادتها...وسعادتها فقط..
تذكر لهفة الشوق لها... وتلك القشعريرة التي كانت تسري في جسده كلما نظر في عينيها أو أمسك يديها...
تذكر كيف  كانا يتسابقان سويا في صعود تلك التلة جريا غير عابئين بنظرات الناس من حولهما....وكيف كان يتركها تسبقه بطفولة ماكرة... متظاهرا بالتعب...حتي تعيش هي نشوة الإنتصار....كان يحبها بصدق...
تذكر ذلك الترقب واللهفة التي ملأت عينيها وهي تنتظر سماع رأيه في طهيها للمرة الأولي وكأنها تنتظر حكما من قاض...
تذكر كيف كانا يسيران سويا ...يتندران ويتشاجران ويتناجيان ....وهي متعلقة بذراعه...
تذكر كيف واسته عندما فقد عمله وضاقت عليه الدنيا... إلا منها...تلك الثقة اللامحدودة والغريبة التي كانت تمنحه إياها بإقتدرا...
تذكر كيف باعت حليها وأعطته كل مالها عن طيب خاطر ليستعين به علي بدء تجارة جديدة...داعية له بنفس  خالصة وعيون دامعة  أن يوفقه الله وأن يفتح له أبواب الرزق واسعةً....
تذكر كيف كانت تضحك بمنتهي البراءة وتنظر له بإمتنان شديد عندما يدخل عليها حاملا بين يديه وردة أو قطعة من الشيكولاته التي تعشقها كثيرا...
.... كيف كانت تشعره بأنها أسعد إمرأة في الدنيا فقط لأنهما يجلسان سويا يشاهدان فيلمها المفضل في المنزل

تذكر فرحتها و تلك الدموع التي إنهمرت في عينيها عندما علمت بخبر حملها وأنها قريبا ستصبح أماً...
تذكر مشاق الحمل علي جسدها الضئيل ...وسهر الليالي وزيارات الأطباء وألام الوضع ..والفرحة بصراخ تلك الطفلة الصغيرة التي أعلنت وصولها لتشاركهما حياتهما معا....
تذكر إبتسامة الرضا والعرفان التي علت شفتيها عندما أصر هو أن يطلق إسمها علي طفلتهما الوليدة ...
تذكر جو البهجة والسرور الذي أدخلته تلك العابثة الصغيرة علي بيتهما السعيد ...
تذكر كيف كانا يتشاجران بطفولة بريئة علي من يدفع سيارة الإبنة الوليدة في الشارع...
تذكر كيف كانت تسهر علي راحته  ليلا ممسكة بقدح القهوة منشغلة بالقراءة او بمشاهدة التلفزيون  حتي لا يسهر وحيدا وهو يراجع صفقة ما أو يستعد لمشروع جديد.....
كم من مرة عاد للبيت متأخرا ليجدها تقف بإنتظاره مرحبة بعودته كمن عادت إليها حياتها مرة أخري...
...تذكر تلك الألام المتكررة التي كانت تجاهدها في صمت ...خوفا من أن تزعجه أو تفزعه...فهي تعلم كم يحبها بجنون

تذكر تلك الإبتسامة الشاحبة التي علت وجهها وهي تحمد الله عندما سمعت خبر إصابتها بذلك المرض اللعين ...
ذلك المرض الذي سلبها مع مرور الزمن وجلسات العلاج كثيراً من أنوثتها ...هي كانت تشعر بذلك ،وهو يراها تزداد جمالا كل يوم عن سابقه ....
تذكر كيف كانت تسأله كل صباح إن كان لا يزال فعلا يحبها؟؟
وتذكر كيف كان يحتضنها بحب مطمئنا إياها أنه لم يخلق لسواها...
تذكر كيف نهرها بعنف ثم إحتضنها بين ذراعيه وضمها إلي صدره بقوة وبكيا سويا عندما خيرته بين الإستمرار في حياته معها كنصف زوجة أو الزواج من أخري....
تذكر كيف نظرت له للمرة الأخيرة وتلك الأسلاك والخراطيم موصلة لجسدها الرقيق من كل مكان وهي تخبره أنه أفضل ماحدث لها في حياتها و توصيه أن يتخير لإبنتهما أما جديدة...
تذكر كيف لفظت بين ذراعيه أنفاسها ...وكيف  بكي ساعتها كالطفل الصغير الذي فقد أمه في الزحام ....
تذكر كيف شعر في تلك اللحظة أنه فقد حضنه الدافيء وملاذه الآمن كان يلجأ إليه  لينسي همومه ويستريح...
كيف كان يشكو لها قسوة الأيام فتواسيه ، وكيف كانت نعم السند والمعين...
تذكر كيف شعر أنه بات  شيخا هرما يومها وهو لم يجاوز الثانية والثلاثين بعد....وأن شيئا ما قد انكسر في صدره إلي الأبد...
-أبي؟؟؟ألم تسمعني؟؟ ما معني الحب يا أبي؟؟
بحنان ...نظر إلي إبنته من جديد...كانت نسخة مكررة من ملامح أمها...
وبرفق قبض علي أصابعها الصغيرة وسارا سويا مبتعدين...وهو يجيبها بصوت تخنقه الدموع:
-الحب يا ابنتي هو أمك.

هناك 3 تعليقات:

  1. ماشاء الله جميله ورائعة انا أتأثرت بيها جداً

    ردحذف
  2. اعجبتني كثيرا .. وأثرت بي أيضا .

    سعيدة بتعرفي على مدونتك وان شاء الله من المتابعين لكل جديد ..

    دمت بخير وتقبل خالص تحيتي وتقديري .

    ردحذف
  3. @Ali Soliman
    يافندم كلك ذووووووووووووق ..وشاكر لك وقت القراءة

    @وجع البنفسج
    يافندم ده احنا اللي لينا عظيم الشرف ان قلم ودفتر بذات نفسها قرت التدوينة..ربنا يكرمك يارافعة من معنوياتي ..لكي مني كل التحية وأهلا وسهلا بيكي في كل وقت

    ردحذف

Your words are my mind engine, write down what you think.