الجمعة، 22 فبراير 2013

خدمة التوصيل


 
غريبة هي تلك اللحظات التي أقضيها في المطارات .. في انتظار إقلاع الطائرة..أتصفح وجوه من حولي..وأرقب الناس تجري يمنة ويسرة..كل يهم للحاق بموعده...أجد متعتي الدائمة في اكتشاف الحكايات المختبئة خلف الوجوه....هذه مجموعة من أهل الصعيد البسطاء بزي رجالهم التقليدي تعلوه تلك التلفيحة وجلابيب نسائهم السوداء..يقفون جميعهم في انتظار وافدهم ويتبادلون الحديث فيما بينهم عن شوقهم للقاء أشرف الذي سافر ليعمل سائقا علي تاكسي في احدي دول الخليج...وهذا مسافر أخر انتهي للتو من وداع أهله ..يخفي دموعه فيما يبدو استعدادا لبداية طريق طويل من سنين الغربة.. وهذان زوجان يسيران متشابكي الأيدي مبتسمين..حالمين بحياة هانئة.. يستعدان لبدء حياتهما وقضاء شهر عسل هاديء بعيدا عن صخب الأهل وحافل بذكريات العمر ...
"لولولولولويييي" اخترقت أذناي وقطعت سيل تأملاتي تلك الزغرودة...التي لم أسمع في مثل قبحها من قبل..من هذه المرأة التي تطلق الزغاريد وكأنها سرينة الإسعاف...فتزعج من حولها وتقشعر أبدانهم...
طفت بنظري بين الوجوه لأكتشف القصة...أه.. هذه عروس بفستان فرح أبيض وحولها مجموعة من الأهل يصفقون ويتضاحكون..مودعين ابنتهم إلي حيث هي ذاهبة..ياإلهي ..ماهذا الذوق البشع..ثوب الزفاف ينضح بقلة الذوق  وبشاعة المنظر..كيف ارتضت هذه العروس أن ترتدي ثوبا كهذا؟؟.. ياللهول ..لم أر في حياتي ثوب زفاف بهذه البشاعة...حول رقبتها يتدلي عقد من الألماس المتلأليء.. مممممم...حسنا يبدو أنه الشبكة.. ولكن ذوقه هو الأخر لايختلف بشاعة عن ذوق الفستان ...ممممم ..هي إذن واحدة من تلك الأسر التي تمتلك من المال أكثر مما تملك من أي شيء أخر..تلك الأسر التي  يبدو عليها أنها شبعت بعد طول جوع....ولكن أين العريس ؟؟.. أين ذلك الأبله منعدم الذوق ؟؟ طفت ببصري بين الحضور محاولا استكشاف وجهه بين الواقفين فلم أتعرف عليه.
قمت من مقعدي مقتربا من هذا التجمع محاولا اكتشاف باقي القصة...
"مش كان عصام ابني أولي ببنتك سعاد من الجدع ده...ده لا نعرف أصله ولا فصله"
قالتها إحدي الواقفات إلي جواري بلهجة حزينة معاتبة لمن اكتشفت أنها أم العروس... اه إذن العروس اسمها سعاد...فمن يكون عصام هذا ؟؟
"ياختي بلا فصله بلا أصله ..الراجل مايعيبوش إلا جيبه..لولولولولولييي..وبعدين ماهو بعتلنا صورته وبعت للبت اسم الله عليه فستان الفرح...وكفاية انه كلفها مهر وشبكة ب150 ألف جنيه ..معلش يعني ماتأخذنيش ..عصام في مقام ابني بس لسه بدري عليه ...الجواب بيبان من عنوانه، و بعدين ماهي هتبقي تنزلنا أجازات..لولولولولوليي ..نبقي نطمن منها.."

 هكذا ردت أم سعاد بلهجة تتصنع الفرح وسط سيل من زغاريدها القبيحة....ياإلهي ..هكذا هي الحكاية إذن... عروس تتزوج بشخص لم تره.. ولم تجلس معه وكل ماتعرفه عنه هو صورته التي أرسلها؟؟؟وفستان الزفاف القبيح الذي ترتديه؟؟ طبعا بجانب شبكة ومهر 150 ألف جنيه... متضمنا خدمة توصيل العروسة حتي منزله.
حولت بصري للعروس.. فرأيت وجها بلاستيكيا..متجهما..لاتبدو عليه علامات فرح علي الإطلاق..تنظر لمن حولها بعينين زائغتين.. تسير بخطوات ثقيلة كمن لا يرغب في الرحيل..تجاهد في منع دموع تملأ عينيها من أن تسيل فتعكر صفو هذا الجو الاحتفالي الزائف..
كيف غاب عني وجه العروس من البداية وهو يحمل في طيات قسماته كل الحكاية؟؟
أيحدث هذا في القرن الحادي والعشرين؟؟ ألايزال هناك من الأسر من يقبل بقهر ابنته وتحطيم قلبها وقتل شخصيتها وتحويلها لمسخ  تعيش فتتنفس و هي تتمني زوال حياتها.. من أجل ماذا؟؟ من أجل موروثات اجتماعية قبيحة؟؟ كشبح العنوسة وتكاليف الزواج المبالغ فيها وتلك المظاهر الفارغة ؟؟
"علي ركاب رحلة طيران الكويت رقم 56 المتجهة إلي الكويت..التوجه للبوابة رقم 32"
"ربنا يهنيها يا أم سعاد ويبختلها..سعاد بنت حلال وتستاهل كل خير" قالتها أم عصام  بلهجة مستسلمة منكسرة والتفتت فسلمت علي العروس وقبلتها وابتعدت مودعة حتي وقفت إلي جوار أحد شباب الأسرة..فربتت علي كتفه كمن يواسيه وتمتمت بكلمات لم أسمعها ..كان هو يجاهد وسط الشيالين في تحميل حقائب العروس علي عربة السير..فضحه شكله المهندم وسط الشيالين وتلك الدموع التي تغرق وجهه..هذا هو عصام إذن ..حينها اكتملت الحكاية في رأسي...عصام وسعاد اللذين أحب كل منهما الأخر ..وفرقت بينهم وقائع الحياة وقسوة الظروف..
 
ابتعدت بضع خطوات عن الجميع .... وأنا أرقب سعاد التي وقفت ذاهلة وسط وداع الأهل ودموعهم التي حلت محل الزغاريد..لم تسمع دعوات أمها لها بسلامة الوصول..لم تكن تميز أصوات من حولها علي مايبدو.. كانت تصر علي أن تتبادل مع عصام تلك النظرات الخاطفة والأخيرة ..وأطلقت لعينيها العنان..الآن تستطيع أن تبكي ولا حرج عليها..فالجميع يبكون.. أمها واخوتها وأهلها...حتي عصام الذي لم يستطع كتمان دموعه وهو يزف حبيبته إلي زوجها..ذلك المجهول الهوية...فسالت دموعه في صمت واستسلام علي وجهه.. وكذلك سالت دموعي.


هناك تعليق واحد:

  1. قريت زى الفكره دى فى روايه لاحمد حلمى "28 حرف" ..
    رائع ..تحياتى ليك مازن :)

    ردحذف

Your words are my mind engine, write down what you think.